سراق الوعي وتجار الخوف
بقلم: فيصل محمود مدوه
- لم ولن توجد في تاريخ البشرية تجارة يمكن أن ينافس مستوى أرباحها تلك التي يجنيها سراق الوعي ومحرفوا حقائق الدين الذين يحاربون العقل والعلم ويغيبون الفكر ويشيعون الخوف من المجهول ويربون حس الأثم في نفوس الناس. هؤلاء التجار لا تقف تطلعاتهم المستترة عند حد السماح لأنفسهم بالإنضمام إلى العصابات المستبدة مادياً وسلطوياً فقط بل تتعداها إلى ممارسة الإرهاب والقهر الفكري المباشر لعقول المواطنين مع بسط سيطرتهم على المنظومات الثقافية التي يجبرونها على أن تتماشى مع مصالح المستبدين. هذه التجارة الساحقة للوعي الاجتماعي تكافؤها السلطات القهرية بدون حدود لأنها تشرع زوراً لديمومتها وتضيف عليها زوراً وبأسم الدين صبغة مقدسة ترفعها في كثير من الأحيان إلى مستوى الألوهه.
- لقد عانت المجتمعات العربية من سرقة وعيها لقرون طويلة فتجمدت بسببها في أجواء ظلامية غيبت عنها سنن الكون وحجرت على العقل الذي كرم الله عز وجل به الإنسان وأعمت عن الأبصار النظر في كون الله العظيم المفتوح واستبدلته بكون مقفول يحدد المستبدون أبعاده.
- لقد تغلغلت فيروسات اللاوعي في هواء العرب وفي أعماق عقولهم وسكن الخوف كل مفاصلهم وأصاب الجذام الحضاري همتهم حتى إنكفأ كل عربي على ذاته وشاعت في أخلاقياته أمراض اللامبالاة والأنانية وهواجس القلق على وجوده. وقد ساهم سراق الوعي بقوة إلى جانب السلطات المستبدة عبر التاريخ العربي بخنق الرأسمال الاجتماعي المستنير والبطش في الداعين للمبادرات التي تزيد من مساحات تدفق الرأي الصحيح وأرهبت بشراسة ودموية مفرطة كل من اعترض على اختزال حياة الناس في أهواء وأطماع أفراد معدودين لا شاغل لهم إلا سرقة ثروات أممهم الطبيعية وامتلاك كل شيء غصباً والتعدي على أسس العدل وتكبيل القضاء الحر وتحقير مبادئ تكافؤ فرص العمل وخنق حرية الإبداع والتجديد.
- إن حقائق الأديان السماوية لا يمكن طمسها لأنها متلازمة أبدية مع الفطرة الإنسانية حتى وإن تعرضت لتحريف المتكسبين فإنها تستمر في الفطرة ذاتية الإنارة، وسراق الوعي يعلمون علم اليقين أن الاستبداد لا ينمو إلا في الظلام ومنه يقتاتون.. فإذا بلغ الإستبداد الحلقوم وثارت الفطرة الإنسانية واشتعلت أنوارها كلها دفعة واحدة فلن يكون من المستبدين وسراق الوعي رد إلا القتل وممارسة الإبادة الجماعية.. وقد مارست الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى عمليات الإبادة الجماعية وكل أنواع الصلب والحرق لمن اعترض على سطوتها التي بلغت حد الإدعاء بإمتلاكها الحصري لمفاتيح الجنة والمحجوزة عندها سلفاً لمن سكت على استبدادها.. ورغم أن جميع الأنبياء حملوا رسالات هدفت لتحرير البشر من اللاوعي والمستبدين المتألهين ومروجي الخوف ومحتكري عناصر الحياة وخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام، إلا أن رسالاتهم جميعاً وكل محتوياتها وقيمها الحقيقية قد خطفت وأبعدت قسراً عن التماس مع حياة الناس ولم يبقى منها إلا هالاتها الهلاميه الخالية من وظائفها الأساسية. ولقد رأينا عبر التاريخ كيف أن أشرس الحكام المستبدين قد بنوا أضخم المساجد ولكنهم في نفس الوقت قطعوا رؤوس كل الأئمة الذين خاطبوا العقول لكي تعي بأن الله عز وجل أكبر وأقوى من النظم المستبدة – وأنه بجوده تبارك وتعالى قد كرم الإنسان ودعاه إلى الحياة المستنيرة في كونه المفتوح الرائع ووصاه أن يبحث فيه ويعلم ويرتقى إلى مرحلة إتقان كشف أسراره التي لا تنتهي ليفوز بنعمها وليكون أقرب إليه وإلى إدراك عظمته بإدراكها.
إن المجتمعات المتقدمة التي رفضت سطوة الكنيسة وعهودها الظلامية المستبدة وأزالت جدران اللاوعي فتحت لنفسها وبقوة عزيمتها طرقاً مستنيره في كون الله المفتوح وانطلقت فيها مرتاحة تبحث في عجائبه وهي وإن حاربت المؤسسة التي اختطفت الدين لصالح المستبدين إلا إنها اكتشفت أن عودة الوعي لها قد قربها من إدراك عظمة الخالق أكثر لأنه حرر تفكيرها وأبحاثها وإبداعاتها.
كذلك الأمة العربية وهي وإن حبست قروناً طويلة عن كل حقوقها الطبيعية وثرواتها إلا أنها قد بدأت تغتسل من أدران الاستبداد وسراق الوعي ومحتكري عناصر الحياة. حتى وإن دفعت من أجل ذلك دماء زكية طاهرة والآن وقد بدأت تلامس أبواب الوعي فإنها ستفتحها حتى وإن استغرق ذلك زمناً وجهداً عظيماً. إن عالم الوعي المستنير هو العالم الأقرب إلى ما أراده الله عز وجل للإنسان. إذاً فإن أعياد بناء الوعي هي أعياد التاريخ العربي القادم ومن يقوم في هذه اللحظة من ركوده ليغتسل لينظف روحه وعقله من أدران تاريخ نجس عفن ساد فيه المستبدون ثم يغتسل ليزيح عن نفسه الخوف واليأس وأوهام الإثم ثم يغتسل ليطلق الحرية لعقله فعليه بعدها أن يتعطر ويبتسم لأنه سينطلق إلى كون الله المفتوح وجدانياً ونفسياً وسيرى أن قواه وطاقاته قد تجددت وطارت بعيداً عن هم وغم السلطات المستبدة وظلامييها. إن رحمة الله تبارك وتعالى جميلة جداً وكونه واسع ومعطر بآياته الكبرى. ومن يغتسل اليوم جسدياً ونفسياً من أدران الأذعان الذي غلفه به المستبدون والمحتكرون المتألهون فقد تحرر للأبد وبإمكانة رفع صوته وفكره المستنير لكشف طغيانهم. الدخول إلى أعياد الوعي الأبدية هو اقتراب من الله عز وجل وأنوار رحمته وسيبشر بعطاء منه لا مقطوع ولا ممنوع لأنه قد تحول إلى حر يعيش معاني تكريمه كإنسان من رب الكون اللامحدود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق